معادلة الآباء والأبناء
ما أجمل كلمة "أبي" تلك الكلمة التي تتدفق عطفا وحنانا لتخلق عالما جميلا تملؤه ستائر صامدة من " العطاء" بنية خالصة، وهو عطاء لا ينضب.
إن الأب هو جدار متين تتجلى فيه مشاعر " القيادة والقدوة " للأسرة جميعا، فهي كالسفينة التي لا بد لها من ربان "واحد" يقودها بحكمة وترو إلى شاطئ الأمان، ولابد لهذا " القائد" أن يدرك نوعية المياه التي تسبح فيها سفينته، وكذلك عمق البحر أو المحيط الذي تسير على سطحه مركبته، كما عليه أن يكون على دراية دقيقة بنوعية الرياح التي تمر على المنطقة التي هو بصدد اجتيازها، وهو ما لا ينفصل عن وجوب حذره من العواصف التي يمكن أن تهاجم سفينته في كل لحظة، أو ما يمكن أن تتعرض له من تيارات برية وجوية قادرة على إتلافها، كما هو مطالب بالتسلح بالحذر والفطنة ونقل ذلك بحذافيره إلى جميع أفراد سفينته كل حسب مستواه العمري والمعرفي، إضافة إلى ما يجب عليه من تهيئة صلبة لسفينته حتى تتصدى لكل ذلك ولا تتزعزع من أول ضربة هواء قد نعدها "نسيما" في سلم العواصف الكبيرة، وهذا ما نمثله عن الأسرة وربانها "الأب" الذي يجب أن يتحلى بجميع الصفات الطيبة من الشجاعة والكرم وحسن التفكير والتدبير وسداد الرأي وقوته، حتى يسير بعائلته التي هو "راع لها " إلى بر الأمان، كما قال صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
وما يناط بالأب مهمة في غاية الخطورة، إذ عليه تقع مسؤولية إنشاء أسس سليمة لأفراد ستتكون منها الأجيال القادمة حتى تخدم دينا ووطنا تعيش على أرضه وتتنفس هواءه كما سيعيش هو بدمائها وأفكارها، فيكون الولاء للدين والوطن، وتكون النتيجة جيلا قويا وأمة مكينة قوامها الأسس المتينة من العقيدة الصحيحة والمبادئ الطيبة.
ولا يبنى هؤلاء الأفراد إلا من طريق القدوة الصالحة التي يقدمها الأب لأبنائه، لذلك ينصح علماء النفس الآباء بعدم إبداء ما فيهم من ضعف(ولكل منا لحظات ضعف لابد له أن يمر بها) لأبنائهم، كما يحذرهم من الشجارات مع الأم أمام الأبناء لأنها ستهز ثقتهم بصرح "الحماية والحنان"، كما ستضعف ثقتهم بأنفسهم حينما يرون أن "جدار الأمان" يهتز، ومن هنا وجب على الآباء التروي في سلوكاتهم أمام الأبناء والتحكم في الهيجان النفسي والعواطف الجبارة التي تفرض نفسها على المرء فرضا في بعض الأحيان.
وغير بعيد عن مثالنا "السفينة"، فإننا نقول بأن على ركابها " الزوجة والأبناء"، أن يطيعوا أوامر "الربان " ويناقشوها برصانة وعقلانية إن وجدوا فيها ما لا يرضيهم، غير أنهم لا مناص لهم من تطبيقها حتى تستمر السفينة في االسير قدما نحو ضفة الأمان، لأن وجود ربان "ثان" عليها سينتج عنه غرق وهلاك للجميع، وهي سنة الله في خلقه.
ولهذا رفع الله مرتبة الآباء الذين حملهم بشحنات المودة والعطف على أبنائهم، فلم يوصهم بهم لأن الغريزة والفطرة تقودهم إلى رحمة فلذات كبدهم وإرادة الخير لهم، في حين نجد أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تحث الأبناء على طاعة آبائهم ، ذلك أن صفة الأنانية متأصلة في الطبيعة البشرية وهو ما يبدو جليا في سلوك الأبناء الذين لن ينظروا إلى "الخلف" ليروا إحسان آبائهم إليهم، ولكنهم يرون مستقبلا يغريهم بأخذ كل شيء من المنفعة والمتعة وعدم إشراك سبب وجودهم في شيء من ذلك، بينما تنتفي هذه المشاعر لدى الآباء كونها تلتحم بحقيقة أن هؤلاء الأبناء جزء لا يتجزأ منهم وهو ما لا يدعوهم إلى التفكير بكونهم عالما مستقلا. وإذا كانت صفة "العقوق" والتنكر للجميل تعتبر عاملا للصراع بين الآباء وأبنائهم، فإننا سنواجه بحقيقة أخرى تتمثل في الصراع بين تفكير الآباء والأبناء كونهما من جيلين مختلفين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجبروا أبناءكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمن غير زمانكم".
ويأتي هذا الصراع عادة من اختلاف وجهات النظر، فبينما يرى الأب أن مصلحة ابنه ستكون في ممارسة عمل ما وتحصيل علم ما واتخاذ زوجة معينة، فإن الابن يرى أن مثل هذا السلوك يعتبر "تعسفا" في حقه وحرمانا له من ممارسة حقوقه وتحقيق طموحاته التي هي حق له، كما أنه سيعتبر أن تفكير أبيه قديم بكل ما تحمله هذه الكلمة من رجعية، في حين نجد أن الأب سيرى أن في سلوك ابنه "تملصا" من العادات والتقاليد وتحررا أعمى قد يقوده إلى الهلاك وخاصة في ظل هذه العولمة التي أتت على الأخضر واليابس، فهو يعتبر أن أوامره أو توجيهاته هي حصن حصين سيحفظ ابنه من الزيغ، غير أن الابن سيعتبر ذلك "تعد" على حقوقه في تقرير مستقبله واختيار ما يراه صالحا لنفسه، كما أن زاوية رؤيته ستختلف اختلافا شاسعا عن زاوية رؤية والده، وما يوجّه للآباء في مثل هذه الحال هو تسليح الأبناء بالفضائل وإحاطتهم بالأخلاق الطيبة، ثم تركهم بعد ذلك يسيرون فيما يطمحون إليه، مع اسداء النصائح لهم بحكمة، لأن النفس البشرية مفطورة على رفض التعسف وفرض الرأي، ونقول ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نصيحة الآباء حيال تربية أبنائهم: "لاطفوهم سبعا، واضربوهم سبعا، وصادقوهم سبعا، ثم اتركوا لهم حبل الغارب".
تأليف : جميلة ميهوبي.